"الإخصاب الصناعي" رديفًا للفعل الفاضح
شيماء القرشي
بعد نحو عامٍ من ركوبهما الطائرة لأول مرة في سفرهما الأول إلى خارج اليمن، عادت سماح (اسم مستعار – 40 عامًا) من رحلة علاجية برفقة زوجها ورضيعهما الوافد إلى الحياة حديثًا بعد نحو 15 سنة من الانتظار. كان هذا الطفل -الذي انتظر الأبوان مجيئه أكثر من عقد ونصف- نتيجة عملية تلقيح صناعي أو ما يعرف في الاصطلاح المتداول بـ"أطفال الأنابيب"، هو مصطلح يشير إلى الأطفال الذين يتم إنجابهم من خلال عملية الإخصاب الصناعي خارج الجسم.
فرحة سماح بوليدها ما لبثت أن تلاشت بمجرد وصولها إلى قريتها في مديرية خولان (جنوب صنعاء)، حيث أصبحت تلسعها الألسن في مناسباتٍ كثيرة، بمن في ذلك بعض أقاربها الذين لم تسلم من لومهم وتوبيخهم، إلى درجة أنها بدأت تراودها الوساوس في جواز ذلك الإجراء الطبي شرعًا، بعد تواتر عبارات الاستهجان واللمز التي طالتها وَزجَهَا من جانب المجتمع، وستلاحق طفلها في المستقبل في شكل تنمرٍ وقدح.
"رأيتُ نظرات الازدراء في وجوه كثيرين حولي، كانت كلماتهم تبصق قرفًا وخيبة وامتعاضًا، حتى الذين كان نقدهم يتحلى بقدر من البريستيج واللطافة، لكن مضمونه كان يجعلني أشعر من داخلي أنهم يقولون: لقد جئتِ شيئًا فريَّا!"، تقول سماح.
تضيف: "على مدى 15 عامًا، لم تظهر عليّ علامات الحمل رغم أن الأطباء كانوا يؤكدون خلو كلينا من أي عيبٍ واضح.. طيلة تلك الفترة كنت وزوجي نتمنى أن يرزقنا الله بطفل؛ خضعنا لعلاجات، وكشوفات وفحوصاتٍ طبية، لجأنا أيضًا إلى الرُّقاة (المعالجين بالقرآن الكريم)، استخدمنا وصفات الطب البديل (العلاج بالأعشاب)، لكن دون أن نحرز نتيجة! لم يكن أمامنا حل متاح سوى القيام بعميلة تلقيح صناعي..".
تستطرد سماح في سرد حيثيات لجوئها إلى تجربة الإخصاب الصناعي، تقول: "خلال عدة أشهر حاولت مع زوجي جمع مبلغ من المال يكفي لنسافر للعلاج في مصر، وبالفعل بعد إجراء الفحوصات اللازمة واجراء العملية نجح الحمل، كانت سعادتنا لا توصف، لدرجة أني جثوت على الأرض أبكي وأنتحب، كانت مشاعر مختلطة بالخوف والرجاء والفرح بعد طول انتظار.. ومن شدة خوفنا على سلامة الحمل وأن يذهب كل جهدنا سدى، قررنا الانتظار في مصر وتأجيل العودة إلى اليمن إلى حين ولادتي. بعد أسبوعين أو يزيد من الولادة عدنا إلى اليمن، كنت أشعر أني أحمل بين ذراعيّ أعظم كنوز الدنيا، لم أتصور أن تلك السعادة سترتطم بأول كلمة سمعت فيها أحدهم يصف طفلي بـ"ابن حرام"، رغم شبهه الواضح بملامح أبيه؛ لقد تحطم شيءٌ في داخلي وجعلني أشعر بالنقمة والحزن معًا".
"بنت أنابيب"
في مكانٍ آخر، وتحديدًا في أمانة العاصمة (صنعاء)، أجرت أسماء (اسم مستعار – 28 سنة)، عملية مشابهة في مستشفى "سيبلاس" بصنعاء، بعد أن أكد لها الأطباء تعذُّر إمكانية الانجاب دون تدخل طبي، حيث كشفت الفحوصات التي أجرتها عن "وجود مشاكل في قناة فالوب المسؤولة عن عملية التخصيب"، ويتعين عليها القيام بعملة "أطفال أنابيب". وهو ما تم بالفعل، ونجحت أخيرًا في الحمل بأربعة أجنة، توفي اثنان منهم داخل الرحم قبل الولادة، فيما بقي اثنان على قيد الحياة.
تقول أسماء: "عندما توفي جنينان من أصل أربعة في بطني، خفت أن يتسبب موتهم بتسمم البقية، خاصة بعد التعب والألم النفسي والجسدي والتكلفة المادية التي كابدناها، لكن لحسن الحظ لم يحدث ذلك -بفضل الله- وأنجبت طفلين (ذكر وأنثى) أحياء، إلا أن أحدهما -وهو الذكر- كان مستحوذًا على مساحة أكبر من أخته داخل الرحم، وهو ما أثَّر على حجمها، حيث ما تزال حتى الآن صغيرة الحجم. حاليًا يتكرر كثيرًا حين تعاني من أي مرض، أسمع البعض يتنمر عليها وينعتها بـ"بنت أنابيب".
بحسب أسماء، فإن الوصم والتنمر الذي يتعرض له طفليها لا يقتصر فقط على الكبار، بل حتى من أقرانهم ونظرائهم من الأطفال، تقول "حين يلعب أطفالي مع بقية الأطفال وينشب بينهم شجار أو عراك -خصوصا مع الأطفال الأكبر سنًا- يشتمونهم بعبارات مثل: يا ابن الحرام، أو اسألوا أمكم من أي دكتور جابتكم!".
تعتقد أسماء أن مثل ذلك الكلام لا يمكن أن ينبع من الأطفال من تلقاء أنفسهم، بل "لابد أنهم يسمعونه من أحاديث الكبار.. أنا أيضًا سمعت من نساء كثيرات قولهن إن ما قمت به غير جائز ومخالف للشريعة الإسلامية".
بصرف النظر عن عدم صحة وجود مخالفة دينية في اللجوء إلى ذلك الإجراء الطبي في حال تعذر الحمل، إلا أنَّ عقدة الخوف من العيب والحرام والوصم جعل نساء أخريات -ممن هن غير قادرات على الإنجاب- يُحجمن عن مجرد التفكير في اللجوء إلى التخصيب الصناعي، بوصفه حرامًا!
من أولئك النساء السيدة حورية (اسم مستعار – 45 سنة)، التي قضت سنوات من عمرها في علاج زوجها بخلطات شعبية من قبيل البردقوش والعسل، وكذلك التداوي بالقرآن الكريم.
تقول حورية: "إن العلاج بالقرآن الكريم والأعشاب هما الحل الوحيد، أما عمليات أطفال الأنابيب فهي حرامٌ لا نقاش فيه"، معللةً زعمها أنه في حال كانت المشكلة من الزوج/ الرجل ويعاني نقصًا ما، فكيف ستستطيع زوجته الإنجاب وزوجها ذاته من يعاني من المشكلة، "لو أنجبت عبر أطفال الأنابيب فمن الواضح أن الطفل ليس من الأب، وقد تكون مادة التخصيب من شخص آخر غيره"، متجاهلةً للقفزة الهائلة التي حققها العلم في مجال الطب بما فيها مجال التخصيب خارج الرحم.
كيف يكون الإخصاب الصناعي حلًّا؟
علميًا تعد عمليات التلقيح الصناعي إحدى أكثر الحلول الطبية في مساعدة النساء اللائي يتعذر عليهن الحمل بطريقة طبيعية؛ وتتم من خلال استخراج بويضات من المرأة (الزوجة) وتخصيبها بالحيوانات المنوية الخاصة بالرجل (الزوج) خارج الجسم في مختبر خاص. بعد الإخصاب، يتم زرع البويضة المخصبة (الجنين) في رحم المرأة ليبدأ الحمل.
في هذا الصدد توضح الدكتورة نهلة الأرضي – أخصائية نساء وولادة بعدن، أن عملية التخصيب الصناعي (أطفال الأنابيب) تبدأ بتنشيط وتهيئة الجسم لاستقبال البويضات، ويلي ذلك تنشيط نمو البويضات عبر الحقن المجهري، ثم مراقبة استجابة المبيضين للحقن المجهري بغرض تجنب حدوث تنشيط زائد. ومعرفة الوقت المناسب لسحب البويضة خارج الجسم عبر الموجات الصوتية، ثم تلقيحها بالحيوانات المنوية المعالجة للأب، ويتم تركها في الحضانة للتتوفر لها بيئة موائمة ومناسبة لمدة تتراوح بين ٢٤ ساعة إلى خمسة أيام، ثم يتم نقلها إلى رحم الأم".
تضيف الأرضي: "أن الخلايا قد تنقسم إلى أربعة أجنة أو أكثر في حال كانت الأم كبيرة في السن؛ لزيادة فرصها في حدوث الحمل. وبعد ذلك تدْخل العملية في مرحلة الانتظار التي قد تمتد إلى 15 يوماً لمعرفة ما إذا كان الحمل قد حدث وانغمست البويضة الملقحة في الغشاء المبطن للرحم؛ وغالبًا ما تصف الطبيبة بعض الأدوية التي تساعد في انغماس البويضة وحدوث الحمل".
الوصم الاجتماعي
هذه الطريقة في التلقيح تتم في إطار مشروع لا يتعدى الزوجين، والاستثناء الوحيد فيها أنها تتم بتدخل طبي عن طريق الإخصاب داخل المختبر قبل وضعه في رحم المرأة/الزوجة، أي أنها مجرد تقنية وسيطة لحدوث عملية الحمل. مع ذلك ما تزال التحفظات تكتنفها في كثير من مناطق اليمن، بسبب الانطباعات المغلوطة حول هذه الطريقة وعدم الاستيعاب الكافي للطريقة التي تتم بها علميًا، الأمر الذي يجعل الأزواج (والنساء خاصة) عرضةً للوصم والازدراء وأحيانًا عرضة للأذى اللفظي والمعنوي.
ويبدو أن هذه الترسبات المجتمعية العدائية حيال التلقيح الصناعي تدفع كثير ممن يلجؤون إلى التخصيب الصناعي يعْمَدون إليها بسرية وتحفظ شديدين، لتفادي الانتقادات والوصم والتنمر من المجتمع. رغم ذلك، ينظر الأزواج الذين يتعذر عليهم الإنجاب إلى هذا الحل (التخصيب الصناعي) على أنه خيط الأمل الأخير لهم.
يشار إلى أنه لم يكن بالإمكان القيام بعمليات الاخصاب الصناعي في اليمن إلا بعد عام 2015، وكان يتعين على الأزواج الراغبين في إجرائها السفر إلى خارج اليمن. مع ذلك، ما يزال عدد المستشفيات والمراكز الطبية التي تقوم بهذه العمليات محدودًا في اليمن، حيث لا يتجاوز عددها عشرة مستشفيات فقط، منها ثمانية في صنعاء، ومركز وحيد في كلٍ من محافظتي عدن وحضرموت. في حين تخلو بقية المحافظات من وجود أي مركز يقوم بهذا النوع من العمليات.
وبخلاف السابق "أصبح هناك وعيٌ جيد لدى الأزواج، خاصةً مع ازدياد حالات عدم الإنجاب"، بحسب الدكتورة سميرة التعزي – طبيبة نساء وولادة بصنعاء. تعلل التعزي ذلك الحالة الإيجابية من تفتُح الوعي (في ما يتعلق بإقبال الأزواج على إجراء عمليات التخصيب الصناعي بصرف النظر عن انطباع المجتمع المحيط من ذلك)، إلى ازدياد حالات ومسببات تعذر الإنجاب "حيث إن أسباب عدم الإنجاب كثيرة ومتنوعة، أهمها بالنسبة للمرأة: اضطرابات الإباضة في المبيضين، والتصاقات الحوض، والانسدادات في قناة فالوب، وأمراض الرحم. أما بالنسبة للرجل هناك أسباب مثل وجود انسداد في قناة القذف، أو في وظائف الخصية، وتشوه الحيوانات المنوية، والاضطرابات الهرمونية أو قلَّتها، والتليف الكيسي وغيرها..؛ لذلك أصبح الناس يلجؤون إلى التدخل الطبي لعلاج هذه المشاكل وللحصول على فرصة للإنجاب عن طريق الإخصاب الصناعي"، حد قولها.
الحكم الشرعي
في سياق التثبُّت من جود مانع شرعي حول عمليات التخصيب الصناعي، قمنا بالتواصل مع أكبر المراكز الدينية الموجودة حاليًا في اليمن، وهو دار الحديث بمعبر (محافظة ذمار)، لسؤالهم: ما حكم أطفال الأنابيب بالنسبة للأشخاص الذين لديهم مشاكل في الانجاب، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المجتمعات المحلية في اليمن، تنظر إلى الأمر كونه وصمة ومدعاة للشك في نسب الطفل ونزاهة أبويه؟
بعد فترة وافانا الرد من المركز بفتوى رسمية معمّدة، حيث فصَّلت في الحكم حسب الآراء الفقهية حول المسألة، مع بيان أن جمهور الفقهاء يرون جواز عمليات التخصيب الصناعي. ورغم أن سياق نص الفتوى تحاشى أشار ضمنيًا إلى دخول هذا النوع من العمليات في حكم "المكروه" دون أن يقول ذلك صراحةً، إلا أن الفتوى ذكرت بشكلٍ قطعي وحاسم نسبه الطفل إلى أبويه في كل الأحوال مادام أن التلقيح تم من الأبوين، ويعد ابنهما شرعًا.
حق طبيعي وفطري
على المستوى النفسي، تلفت الدكتورة ريم العبسي – أخصائية نفسية بصنعاء، إلى ضرورة أن "يتنبَّه المجتمع إلى الوضع النفسي الحرج الذي قد يعاني منه الأبوان حين يُحرمان من حقهما في أن يكون لهما أطفال كبقية الناس، والكف عن التذرع بأمور غير صحيحة وتخالف العلم والدين والمنطق".
وتؤكد العبسي على حقيقة أن الطفل الناتج من عملية الإخصاب الصناعي هو ذاته الطفل الناتج من الإخصاب الطبيعي؛ فهو -في الحالين- ناتج عن اختلاط حيوان منوي للأب مع بويضة للأم، وإنما الاختلاف الوحيد هو بالكيفية التي يتم بها الإخصاب عند صعوبة الإنجاب بالشكل الطبيعي، لا غير.
وبحسب الدكتورة العبسي، فأن الوصم الذي يلحق النساء اللائي يلجأن إلى الاخصاب الصناعي/عمليات أطفال الأنابيب، يعود بدرجة رئيسية إلى قلة الوعي لدى المجتمع، الذي يستجر مفاهيمه "من منظومة الأفكار المنطلقة من الرؤية القبلية أو الموروث الإيديولوجي التي تكون في الغالب مغلوطة وغير منصفة، لذلك الأحرى بالمختصين عمل حملات توعوية وتثقيفية للمجتمعات التي تسود فيها مثل هذه الأفكار التي لا تستند على أساس واقعي".
من ناحيةٍ قانونية، تؤكد المحامية ابتسام باكر، على أن ما يتعرض له الطفل من عبارات تمس عرض والديه -وتحديداً والدته- فهو لا يخرج من إطار جريمة القذف. ووفقًا لابتسام باكر فإنه كان "الأجدر بالمشرِّع اليمني وضع نصوص قانونية تحمي الأطفال بوضع نصوص قانونية صريحة بشأن أطفال الأنابيب والنزاع الدائر حولهم، خاصة حين يتعلق الأمر بقيام بعض الأزواج بوضع عينات البويضات المخصبة المجمّدة (أو ما يسمى بتبريد الأجنة) في بعض المشافي بغرض إعادة زراعتها في عملية جديدة في المستقبل، وفي حالة حدوث طلاق بينهما يجب فوراً إخراج تلك العينة وايقاف تجميدها.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية.