خلود.. قصة مهمّشة رفضَت الزواج بأبيض
دكة- سماح عبدالله
تعزفُ بيديها الناعمتين الملابس الصوفية، ترصّ ألوانها بإتقان، وتجد سلوة قلبها بين الخيوط والإبر. خلود ناجي، شابة من مديرية “ذي السفال” جنوب محافظة إب، لم تتجاوز العشرين عامًا بعد، لكنها تتحدّث بخبرة خمسيني عاصر أحداثًا جِساما. لم تزر خلودُ المهمشةُ المدرسة إلا بائعة للآيس كريم. كانت في السابعة من عمرها تذهب إلى المدرسة مع بدء فترة الراحة إلى الساحة، وتغادر مع عودة الطلبة نحو فصولهم الدراسية بمبلغٍ زهيدٍ من المال. تبتاع خلود بما ربحت بعض احتياجات أسرتها المكونة من والدتها الأرملة و4 أطفالٍ يصغرونها.
طفولة تكافح ولا تستسلم
تقول خلود ناجي إنها عملت في بيع الآيس كريم بعد خسارتها من بيع السندويتشات” والبطاط؛ لأن أولياء الأمور يمنعون أطفالهم من شراء الطعام، وكونها فتاة مهمّشة لا يثقون بنظافتها، وتحكي عدة مواقف تتذكرها من طفولتها، فذات مرة باعت سندويتشات البطاط لطالبَين في المدرسة، ثم أتت والدة أحدهم لترمي البضاعة في وجهها مع مبلغ 300 ريال يمني (نصف دولار)، وتطردها من ساحة المدرسة وتحذرها وتتوعد بإيذائها إذا رأتها مرةً أخرى في المكان نفسه. تعلّق والدة خلود على ذلك الحدث بأنه كان مؤلمًا جدًا، وأن نفسية خلود وإخوانها قد تألمت كثيرًا، كما تتذكر أن الأسرة تلك الليلة قد باتت دون عشاء قهرا لا فقرا. اتجهت خلود إلى البحث عن مصادر عيش أخرى، وفي التاسعة من عمرها كانت تنقل المياه بالأوعية لبعض النساء المسنّات أو الحوامل من البئر إلى منازلهن بالأجر اليومي، ونادرًا ما كانت المسافة بين البئر وبيوتهنّ تقل عن نصف كيلو متر.
“بإمكانهم تقديم النصائح بطريقة جارحة، ولكن ليس بإمكان أحدهم أن يمدّ يديه لي بمبلغ أبتاع به عباءة”
مراهقة تصبح ضحية للفقر.
مع ظهور أولى علامات البلوغ على جسد خلود في الثالثة عشر من عمرها، تعرّضت لمضايقات وتعليقات المارة. تقول خلود: “من المتعارف عليه في منطقتي أن الفتاة في ذلك السنّ تترك لبس الفساتين الملوّنة وترتدي العباءة السوداء. أنا لم أكن أملك ثمن العباءة، لهذا كنتُ ألبس الملوّن مع التزام الحشمة ما أمكن. كانت النصائح تنهال عليّ كالسهام (احتشمي يا بُنيّة!، ماذا تريدين بالخروج هكذا؟!، أنت تفتنين شبابنا!). وتعقّب: “بإمكانهم تقديم النصائح بطريقة جارحة، ولكن ليس بإمكان أحدهم أن يمدّ يديه لي بمبلغ أبتاع به عباءة، وحينما صارحتُ إحدى الناصحات من جاراتي، تصدّقت عليّ بعباءة وسخة وممزقة، فرميتها لها وذهبت بفستاني”.
لم تقبل خلود إهانات مَن حولها، ولم تأخذ صدقات من أي أحدٍ أراد الانتقاص من شأنها، فقد تمتعت باعتزازٍ كبيرٍ بالنفس منذ صغرها؛ لهذا أحبّها أحد شباب المنطقة -من خارج فئتها الاجتماعية- بعد مواقف عدّة أثبتت له طيب منبتها ورقيّ أخلاقها. يشير الاختصاصي في علم الاجتماع مفيد الشحر إلى أن الصورة الذهنية للمجتمع عن فئة المهمشين قد ترسّخت بأنهم يتقبلون أي شيء وكلّ شيء، وأن هذه الفجوة عميقة الجذور تاريخيا وتمتد لمئات السنوات، وفي تراثنا أن النخبة استخدمت العبيدَ السود لخدمتهم وإشباع نزواتهم، ومع اختلاف الزمن والظروف اليوم، يناضل مواطنون من هذه الفئة لإثبات أنفسهم، واستعادة كرامتهم المصادرة، ولا بد من نجاحهم مع المحاولات المستمرة”.
زواج محتمل
في الخامسة عشر تعرّضت خلود لمغازلات بعض الشباب من غير المهمّشين. أحدُهم عرض عليها مبلغًا مقابل قُبلة، بحسب قولها. تجاهلته وواصلت طريقها مع وعاءٍ مليءٍ بالمياه سعته 15 لترًا. تبعها الشاب بإصرارٍ، فرمته بالوعاء حتى غسلتهُ بين ضحكات بقية الشباب. في ذلك النهار، عادت خلود نحو منزل جارتها بخُفّي حنين. اشتكت لها ما تعرّضت له، وعلى غير المتوقع، قامت تلك الجارة بلوم خلود، وأنها فتنت الشباب بمشيتها ولباسها القصير.
بعد مدة وجدت خلود أمها مريضة وبحاجة ماسّة للدواء، ولم تستسلم خلود لتلك الظروف، ثم عاد لها الشاب نفسه يعرض عليها المال مقابل جسدها، وهذه المرة صفعته صفعةً مدوية أعادت له صوابه، بحسب توصيف خلود. حاولت خلود بكل ما استطاعت أن ترعى أمها بإمكانيات بسيطة لتستعيد عافيتها، وبعد نحو عامٍ واحد من حادثة الصفعة، عاد ذلك الشاب، لكنه هذه المرة أتاها طالبًا الزواج منها. تتحدث خلود: “كنتُ أعي أنني فتاة مهمشة، وهو من طبقة (القبائل)، لهذا أدركتُ أن الطريق بيننا محفوف بالأشواك، فرفضته قبل أن ترفضني عائلته”. تعلّق الاستشارية النفسية بسمة صادق على ذلك: “موقف خلود يمكن تفهّمه، ونابع عن إدراك عميق لوعورة وخطورة الطريق التي ستخوضها، وهي بوصفها فتاة مهمشة مارست اعتراضها بذكاء، وأثبتت لمن حولها أنها إنسان كامل الحضور والإرادة”.
“في ذلك اليوم وقفتُ أمام الجميع لأرحب بها في منزلي، ثم وضحتُ لها بأن لا شيء يربطني بأخيها، وأني لم أرفضه كرهًا، بل مراعاة لأعراف مجتمعهم الظالم الذي يرفض زواج قبيلي بمهمشة، ولو وافقت عائلة الزوج كلها، فإني لن أوافق”
“المجتمع الذين لم يمنحني الاحترام لا يستحق مني الاحترام”
بعد رفض خلود للزواج من شاب آذاها ثم أحبها، اتجهت للعمل بحياكة الصوف، وقد أبدعت حتى أصبحت قِبلة النساء في المنطقة لشراء تلك الملابس الصوفية.
تذكر مصادر من جارات خلود أن إحدى أخوات ذلك الشاب المتقدّم لها زارتها لتهينها في حضرة مجموعة من النساء، وتتهمها بأنها سحرت أخاها، وأنه في حالةٍ نفسية متعبة بسببها، وتقول إن والدته مقهورة من أن رفْض الزواج لم يأتِ من والدة للعريس القبيلي، بل من فتاة سوداء مهمشة. تقول خلود في هذا الشأن:” في ذلك اليوم وقفتُ أمام الجميع لأرحب بها في منزلي، ثم وضحتُ لها بأن لا شيء يربطني بأخيها، وأني لم أرفضه كرهًا، بل مراعاة لأعراف مجتمعهم الظالم الذي يرفض زواج قبيلي بمهمشة، ولو وافقت عائلة الزوج كلها، فإني لن أوافق”.
تشير خلود بأن المتعارف عليه في المجتمع أن فئة المهمشين منبوذة ومرفوضة ومسلوبة القرار، وأنها تسعى جاهدة لاعتراف بقية شرائح المجتمع بها، لهذا كانت الصدمة كبيرة للجيران بأنها فتاة مهمشة تغلق ما أسموها “طاقة القَدَر” التي انفتحت لها، وتؤكّد كذلك استياء عائلة الشاب المتقدّم؛ استاءت منه لعدم استشارتهم في تقدّمه لها، وغضبوا منها لأنها لم تترك القرار في أيديهم. وتؤكد خلود بأن كرامتها ونظرتها لنفسها أكثر أهميةً من الحب، وإن أحبّت من فئتها أو من غير فئتها فلا فرق في ذلك إلا بإمكانية أن تعيش مرفوعةً الرأس تحت ظله، وأنها فتاة مثل جميع الفتيات متفضّلةً عليه بقبوله شريكَ حياة لها.
ويقول الشاب الذي خطب خلود (يفضل عدم ذكر اسمه) ” كنت قادرًا على مواجهة المجتمع كله فضلًا عن عائلتي، وإن وافقت عليّ ستتبرأ مني أمي لامحالة، لكني كنت أخطط للعيش معها في مدينة أخرى”. ويضيف أن صدمة عائلته لم تكن بتهوره في قصة حبه، بل في رفض خلود للزواج منه، وكانت تتوقع أن تفرح بشدّة. تختم خلود حديثها بأن المجتمع الذي لم يمنحها وفئتها الاحترام لا يستحق منها الاحترام، وتؤكد أن اعتزازها بنفسها لن يسمح لها بأن تضع نفسها في مواقف محرجة، لهذا رفضت رجلًا محبًّا بضميرٍ صادق، حين أبدى استعداده لتحطيم حواجز بين طبقات المجتمع.