ساعة واحدة، لكنها ألف عام


دكة_ ماجد زايد

قبل إنقطاع النت عنا، كان المساء الصنعاني هادئ كعادته في ساعات الليل المتأخرة، صمت ووقار ونفحات باردة، يتخللهما خيالات جميلة مع كل ترنيمة طربية لصوت المذياع بينما يغطي المكان من حولي بروائع عبدالحليم حافظ، كل شيء طبيعي كمزيج من الإطمئنان والهدوء ومحاولات البحث الروتيني عن المتلاحقات، قرأت قليلًا في بعض الكتب والمجلات، ثم عدت للمذياع وإستمعت مجددًا لبعض الطربيات، بعدها بقليل أخذت الموبايل وفتحت النت لأتصفح قليلًا من الأخبار، كانت العناوين على غير عادتها، تهديدات وتحذيرات، مقابلات تلفزيونية لقيادات تطالب بالإنفصال، تلويحات مقابلة، وتهديدات بالقصف مجددًا، الناطق الرسمي في مدينتنا يهدد بقصف الدول المجاورة، ليحذر الأخرين من ويل العاقبة، مع أخبار متفرقة عن الحرب والمعارك المتجددة، وفي مكان أخر كان أحدهم يتحدث عن إنعدام المشتقات النفطية في صنعاء، وطوابير الناس المتكدسين جوار المحطات منذ أيام وأيام، وعن السوق السوداء المحتكرة للبترول بأسعار مرتفعة جدًا، قليلًا قليلًا حتى ظهرت صور عاجلة من مدينة الحديدة، المدينة الساحلية اليمنية وشريان المواطنين الأخير، عن ضحايا أبرياء قتلوا بقصف للطيران في قلب المدينة، قرابة عشرين مواطن قتلوا في قصف تحالف الحرب على اليمن لمبنى الإتصالات، بعدها بقليل، تظهر أنباء مماثلة عن قصف جديد في محافظة ذمار، ثم محافظة صعدة، وهكذا، صار الهدوء والطرب والإطمئنان معركة من القتل والفتك والدمار، ومع كل عنوان جديد تعلو أصوات منددة بالقصف، وأصوات مؤيدة، جمهور حزين، وأخر سعيد وداعم، مع أن جميعهم يمنيون بالضرورة، لكنهم ينتمون لطرفين متحاربين ومتنازعين على السلطة، طرف يتوعد بالإنتقام، وأخر يبشر الشعب بالتحرير والخلاص..

لم يعد الأمر غريبًا على اليمنيين، هذه المستجدات الجنونية تتكرر في حياتهم منذ ثمانية أعوام، ومعها تعوّد الناس دومًا على القهر والتكرار بعد كل جريمة يقترفها الطيران بالأبرياء مند أعوام، ولكنهم -أي المواطنين في مناطق سلطة صنعاء- لم يتقبلوا أبدًا فكرة اليمنيين الذين يستقبلون أخبار القتل والإجرام في حق شعبهم ووطنهم بسعادة وتأييد، هذه الغصة أكثر وجعًا وغرابة في حياتهم من الموت والإنتحار، وخذلانها لا يذهب من نفوس الضحايا وأهاليهم أبدًا، كأن الشعب المضرج بدمائه وأشلاء أبناءه مشارك في الحرب والإنقلاب على السلطة، كأن الأبرياء المقتولين في محافظة الحديدة قبل قليل جنود مقاتلون في حدود الدول الأخرى، كأنما يريدون من المواطنين في مناطق سلطة صنعاء أن يصيروا حوثيين ومقاتلين بالإرغام والضرورة، هذه الخيالات التي أحدثكم عنها تتقاقز في رأسي مع كل جدال عقيم يحدث في مواقع التواصل الإجتماعي عن أخلاقيات التضامن الشعبي والإنساني من عدمه.. أحد الكتاب البعيدين تمامًا عن طرفي النزاع، كتب في خضم هذا الصراع المتفاقم بوستًا صغيرًا قال فيه: هذه الحرب عدوان علينا، وواقعها محتوم على رؤوسنا، حرب ليس لنا فيها مثقال ذرة من إعتبار لحياتنا وإنسانيتنا، وتجاهل المتحاربين لدمائنا يتكرر دائمًا، ولكن تغاضي اليمنيين الدائم عن دماء الضحايا المغدورين من شعبهم ووطنهم وناسهم أمر لا يبرره أي دين أو أخلاق على الإطلاق.

لم تنتهي الحكاية بعد، مازالت بعيدة عن نهايتها، لم يمض من وقتي الكثير حتى وصل الطيران الحربي بصوته المدويّ الى حيث أعيش، ليزيل الهدوء والأمان، ويصير المكان حولي معركة كاملة يغشاها الموت والخوف في كل إتجاه، الكثير من الطائرات محلقة، أصوات الصواريخ يستهل بدايته، صاروخ هنا، وأخر بالقرب منه، ولكن الصوت مازالت بعيدًا عني، حينها فقط قررت أن أكتب في حائطي عبارة صغيرة، كتبتها سريعًا ووضعتها للنشر في فيسبوك، لأتفاجئ بأن النت لا يستجيب، ذهبت لتفقد المودم، لا شيء فيه، والرصيد مازال في ذروته، هذا الأمر غريب جدًا، تجاهلت النشر وجلست في مكاني، أتتبع أصوات الطائرات بينما تقترب وتقترب، إقتربت أكثر، وإرتفع صوتها، لأتفاجئ بالمكان يهتز ويرتعد، قصف شديد، صاروخ بعد أخر، إتصلت بأحدهم: أخبرني وهو مذعور بأن شبكة الأنترنت في الجمهورية اليمنية توقفت بسبب إستهدافها قبل قليل، ما هذا؟! لقد قطعوا عنا شرياننا الوحيد للإستنجاد بالعالم، يمضي من الوقت القليل، يعود الطيران بصواريخ أكبر وأشد، يلقيها على أماكن قريبة منا، النوافذ تريد الهروب من شبابيكها، الأبواب ترتعد، الجدران تهتز، القيامة حاضرة بالقرب من هنا، صارت الحياة قيامة تبعث، وظلام يخاف، وبشر يخرجون من بيوتهم للنجاة بأنفسهم مما يجري فوق رؤوسهم، أطفال بيتنا ونساء منزلنا غادروا بالفعل، فروا الى أماكن أمنة، وبقيت في مكاني أحرس البيت المتهاوي، وأصبر الجيران الهالعون، لم تنتهي الحكاية بعد..

لا أحد يعرف ما يدور في لحظات القصف والتحليق سوى من عاشها فعلًا، من تذوق مرارتها وشاهد موتها يتردد عليه لمرات ومرات، لا أحد يعي معنى الحرب وصواريخها وتأثيراتها غير ضحاياها الذين عاشوها بالفعل.. ففي لحظة من الزمن، ستجد الأرض من حولك تهتز والزجاج يتطاير والسواد بتداخل بالغبار، والموت يحاصرك كأنه أجساد أخوتك وجدران منزلك، لتظن حينها أن القيامة قد قامت عليك وحدك، لتصبح خيالاتك كلها من زمن أخر، ساعة واحدة من ليالي الحرب في حياتك، ساعة واحدة فقط، ستصنع في رأسك الف عام من الذكريات والأحزان والرعب المتراكم في قلبك وعقلك.. بعدها لن تنساها للابد، ومعها ستدرك كل يوم معنى أن تتضامن مع الضحايا الذين يشبهونك في بيوتهم المقصوفة..

هذه ساعة واحدة فقط من ليالي الحرب في حياتنا، ساعة عابرة، لكنها الف عام من الذكريات والخيالات والرعب المتراكم في قلوبنا وعقولنا، أنتم لا تعلمون باقي الزمن الطويل ماحدث فيه لكل هؤلاء البشر في هذا الوطن، ربما ستأتي الأيام لتخبركم عنها ما حدث فيها للعابرين الأبرياء.





89